الأحد، 22 أبريل 2012

زواج رغم أنف القانون !



أ عمل طبيبة تكليف في وحدة صحية بقرية ريفية في محافظة أخرى غير محافظة سكني الاسكندرية ,ولمن لا يعرف وظيفة طبيب التكليف فهي باختصار ..كل شيء..واي شيء..عندما يكون طبيب واحد فهو مدير الوحدة ورئيس الفريق وهو طبيب باطنة وأطفال وتنظيم أسرة ونسا وجراحات بسيطة وكل ما يقع تحت بندك (ممارس عام )..

ولأني الطبيبة الوحيدة في الوحدة وكان باقي زملائي الذين انكمشوا إلى واحد كلهم ذكور فلم يكن هناك سواي يتولى مهمة طب تنظيم الاسرة وأمراض النساء مع باقي المهام بسبب طبيعة المنطقة الريفية بالإضافة لرفض الأطباء الشباب العمل به هناك..


وهكذا بحكم طبيعة عملي التي تجعلني اتعامل مع كل الفئات العمرية وأتغلغل في حياة هذا المجتمع على مدار عام عامل حتى الآن..أدركت أن خلف اسوار هذا المجتمع..الكثير من الاسرار..


وقد تعودت أن أتعامل مع الزوجات صغيرات السن منذ بداية عملي الأمر الذي أدهشني في البداية , فقد كانت تأتيني زوجات في الثامنة عشر من عمرهن وقد أنجبن أتين للبحث في قصة تنظيم الأسرة وخلافه , لذا كان الأمر مألوفا لي مع الوقت أن تأتيني مريضة أو زائرة تبدو صغيرة وتحمل طفلا ..


ولكن منذ شهرين , لاحظت أن السن يتراجع للخلف , وبدأ الأمر يصبح غريبا ..فقد تراجع سن من يأتيني من المرضى للكشف أو من طالبات استخدام وسيلة لتظيم الأاسرة بعد الانجاب أصبح 17 ..ثم 16 ..ثم 15 !!!!!!!!


في ذلك اليوم نظرت للمريضة التي جائتني تشكو من ألم بالبطن ومعها سيدتين , قالت الممرضة لي هذه حماتها وهذه أختها , فنظرت للفتاة وكانت تبدو صغيرة الملامح ثم وقعت عيني على تذكرة الكشف المدون بها السن فوجدته 15 عاما ..والفتاة (اقصد السيدة ) حامل في 6 اشهر !

يومها حدقت في الثلاثي الذي يقف أمامي ..الزوجة والأخت (الحامل أيضا ) والحماة..(وكانت حماتها متسلطة تعاملها بعجرفة وأصابتني بالحنق والغيظ )..وانتهينا من الكشف وخرجن فأمسكت بذيل الممرضة وقلت لها انتظري ..ماهذا الذي رأيته لتوي ؟ كيف تتزوج الفتيات هنا بدون بطاقة رقم قومي وقبل
السن القانوني ؟ ألم ينقرض هذا الأمر ؟


وكان الرد الصاعق ..والحوار الغريب :

- اسكتي يا دكتورة ماهو من ساعة الثورة والدنيا باظت..
- نعم ؟ مال الثورة يالجواز كمان ؟
- ماهو من بعدها الناس باظت , وبقى البنت تكلم ولد في التليفون عادي ولا عالنت عادي واحنا عندنا مينفعش كدة , فبيجوزوهم بدري عشان يستروهم ويخلصو منهم وبقو بيتجوز عندهم ان شاء الله 13 أو 12 سنة عادي..
- يعني بيجوزو بناتهم من غير قسيمة ولا ماذون ؟
- اه وبيمضو الراجل على وصلات أمانة أو حاجة زي كدة .وهو ممكن يكون صغير برضه عادي جواز عرفي يعني ..وكل الناس بتعرف ..وبعدين لما تكمل السن بيكتب عليها بمأذون وممكن ساعتها يكون معاها عيلين أصلا ولا 3 عيال ..ويقطعو ساعتها الورق القديم ..يا دكتورة كل حاجة بتتعمل وبتنفع ومحدش بيسأل على حد دلوقتي ..ولا حد حاسس بحاجة.


وانتهى الحوار لضيق الوقت وتكدس الحالات..وعدت لأتابع عملي في أشد حالات الضيق والغيظ وكل ما يمكن وصفه..

ما هذا العبث ؟ إلى أي درجة تردى بنا الحال ؟ لتستباح طفولة بناتنا ويضيع مستقبل كل منهن وتعليمها وعمرها في زواج أهوج طائش لأن الكل يريد أن يتخلص من مصيبة ترقد في بيته وهي لم تصبح مصيبة بعد أصلا !

أليس هذا هو المجتمع الذي أوهمونا أن الأمية فيه تتراجع وتتلاشى وأن الزواج المبكر ينتهي وأن لا شيء فوق القانون ..ها أنا بعد عام أرى نسبة الأمية تفوق التعليم وحتى المتعلمات لا يكتمل تعليمهن بعد الأبتدائية والاعدادية في الظروف العادية, فمبالنا بمن يتم الزج بها في قضبان قفص الزوجية قبل الثالثة عشر وطبعا لا يعد هناك ما يسمى مدرسة ولا تعليم , أي مستقبل ينتظر هؤلاء الفتيات ؟ وأين القانون الذي يحميهن من براثن آباء ظالمين ومجتمع مجحف ؟ لأنه يخشى الفتنة فيقوم بفتنة أكبر ؟


وللعلم , في اعماق الريف عندما تتزوج الفتاة فإنها تتحول بالكامل إلى اسرة الزوج , تصبح حماتها هي الوصية والمسؤولة عنها وتصبح علاقتها بأهلها هي علاقة مهمشة ..فماذا حين تكون بين أسرة مستبدة كالتي رأيتها ؟ وتعامل كأنها جارية ؟ من يأخذ لها حقها تلك الطفلة ؟ماذا حين تصبح هذه الفتاة في السابعة عشر وبعد أن يتزوج عليها زوجها زوجة أخرى من يعيد لها حق السنوات المسروقة وعمرها الضائع وهي بين ذراعيها ثلاثة أطفال ؟ بل كيف تربي طفلة أطفالا أصلا ؟ وكيف أتعامل مع طفلة تأتيني مع حماتها لأن حماتها ستقرر لها أي وسيلة منع حمل تستخدم ولأي مدة وهذا طبيعي طبعا لأن من أتحدث منها لا تفهم أي شيء في أي شيء..كلما سألتها سؤالا ضحكت أو نظرت لي نظرة تدل على عدم الفهم..فكيف أتعامل معها في أمر شائك مثل هذا ؟ كيف أحدثها عن أسرة وبيت وحياة وحرية اتخاذ القرار , لا أعرف حتى إن كانت تفهم معنى هذه الكلمات ..وكيف أتحدث معها في أمور الزوجية وهي في هذا السن فأنا رغم أنفي أرى أمامي طفلة ! عندها كل امرأة تزوج ابنها لفتاة صغيرة وتكون هي الحاكم المتسلط على كل ما يتعلق بها ..

فكم جائني من سيدات متزوجات صغيرات مساكين اضطررت لاستخدام سلاح موقعي كطبيبة لاجبار حمواتهم على احترام ادميتهن إلى حد أن طردت مرة حماة زوجة من غرفة الكشف بحقي في احترام خصوصية مريضتي التي اتضح انها خائفة أن تقول لي حقيقة رغبتها في الحمل وحماتها تجبرها على منعه !


لا داعي طبعا لذكر قضية ختان الإناث أيضا التي وجدت نفسي مرغمة على مواجهتها هناك بشراسة واستخدام كل أساليب اللإقناع ,وكل ما تعلمته في حياتي وخبراتي لأتعامل مع نفسيات وعقول مريضة لأصل بفتياتهم إلى بر الأمان ..وهي محاولات الله وحده أدرى بمدى نجاحها أم فشلها..


معذرة قد يجرح كلامي أصحاب القلوب المرهفة , والمثل العليا ,وقد كنت كذلك يوما ولكني تغيرت..فالمثل العليا وحدها لا تكفي لتجعلني أتحمل ما أراه هناك يوميا ..وبح صوتي في مواجهته فالأمر أعقد بكثير من كلمة طبيب تقال..ومجهود فردي يتم..في ذهني خطط ما صغيرة ولكنها لن تنفع كثيرا فأنا لن أبقى في ذلك المكان طويلا وسأرحل ذات يوم فمن ينقذ هذه الأماكن ومن ينقذ فتياتنا وشبابنا من براثن هذا الطغيان والجهل ؟


الوضع في الريف في مصر يفوق سوادا ما يرسمه لنا أصحاب الكلمات المنمقة على التلفيزيون والجرائد وما علمونا إياه في المدارس..إنه حقيقة سوداء قاتمة ومظلمة..,يغرق في الجهل والتخلف والظلم والفقر..شيء مؤسف ومزري ومحزن أن نكتشف أن في مصر كل هذا القدر من القذارة ..عالم لا حياة أدمية فيه ولا عقول تحاول أن تفهم وتتردى بأنفسها من سيء لاسوأ , عقود من الظلام عششت في هذه العقول حتى أصابها الصدأ ومن يدفع الثمن هم جيل الحاضر الذي أصبح مدفونا تحت الرمال بين القذارة والأوحال..والعادات القديمة العقيمة..بنات مصر تستباح كل حقوقهم من طفولة وتعليم وحق في الادراك وفهم الحياة واختيار الزوج والعيش في كرامة ومصر ومن يحكمها غارقون في شؤؤونهم الخاصة

والله لو كان بيدي لأطرت رقبة كل من له دور مسؤول في أن يصل الحال بهذه الأماكن إلى هذا ولم يكن ليطرف لي جفن..

فحسبي الله ونعم الوكيل ..ولعنة الله على كل ظالم وكل راع لم يكن مسؤولا عن رعيته..
.....

د شيماء عبادي
22 ابريل 2012

هناك تعليقان (2):

  1. واقع مرير وحقيقة مؤلمة

    ردحذف
  2. مثل هذه الأمور أكبر من أن يؤثر فيها جهد فردي ولو حاولتِ تغيير تفكيرهم وحدكِ ستصابين بالكثير من الاحباط - وهذا عن تجربة - لأن الريفيين في كل بلاد الله يملكون عقولا متصلبة لاتقبل الراي ويلتزمو بقوانينهم الخاصة كأنها تعليمات دينية .. مثل هؤلاء تكلمينهم بلغتهم وطريقتهم في حساب الأمور ولاينفع معهم الاسلوب المعتاد في النصح وربما اعتبرك الكثير منهم عدوا يحاول تخريب حياتهم، حتى الصغيرات اللواتي تدافعين عن حقوقهن لن يعجبهم الأمر.

    ردحذف